تحولات سوريا- صراع نفوذ متصاعد ونهاية الحقبة الإيرانية؟

المؤلف: محمد سرميني09.30.2025
تحولات سوريا- صراع نفوذ متصاعد ونهاية الحقبة الإيرانية؟

يشهد الشمال السوري تحولات ميدانية وسياسية متسارعة ومذهلة، تنبئ بانقلابات جذرية في موازين القوى على المستويين المحلي والإقليمي. تتجاوز هذه التطورات حدود المعارك العسكرية لتشكل لبنات أساسية في إعادة صياغة الخريطة الجيوسياسية للمنطقة، بما ينسجم مع الأهداف الاستراتيجية للأطراف الفاعلة.

هذه التحولات تمثل امتدادًا لحراك إقليمي ودولي واسع النطاق، يرمي إلى إعادة هيكلة المشهد السوري المضطرب، حيث تتصدر المصالح الاستراتيجية الأولويات وتلعب دورًا محوريًا في تحديد مسار الأحداث.

تكشف المعطيات الأخيرة عن مساعٍ حثيثة ومنظمة من قوى إقليمية ودولية فاعلة لتقويض النفوذ الإيراني المتنامي في سوريا، بدءًا من الشمال، مع توقعات بتصعيد وشيك لاستهداف هذا النفوذ في الجنوب السوري.

بعد سنوات طوال من الاستثمار الإيراني المكثف في دعم النظام السوري وتعزيز وجودها العسكري على الأراضي السورية، تواجه طهران اليوم تحديات جسيمة في ظل عزلة دولية خانقة وضغوط متزايدة تحد من خياراتها المتاحة على الساحة الميدانية.

التحركات العسكرية الأخيرة في حلب تحمل دلالات واضحة ولا تخلو من رسائل سياسية عميقة؛ حيث انطلقت الهجمات في توقيت مدروس بعناية فائقة، تزامنت العملية مع انتهاء الحرب في لبنان، وهو ما يضعف بشكل كبير قدرة حزب الله على تقديم الدعم لحلفائه داخل الأراضي السورية.

الجدير بالذكر أن هذه التطورات الدراماتيكية بدأت بعملية اغتيال الجنرال الإيراني البارز كيومرت بورهاشمي، أحد القادة العسكريين المؤثرين في سوريا بشكل خاص، تبعتها عملية جريئة استهدفت القنصلية الإيرانية في حلب، مما يعزز الاعتقاد بأن الهدف الأساسي للعملية هو تقويض النفوذ الإيراني بشكل ممنهج، إلى جانب تحقيق مكاسب استراتيجية أخرى.

ومع مرور ما يقرب من أسبوع كامل على انطلاق العملية العسكرية، لا يزال الموقف الروسي منها يشوبه الغموض والتردد، حيث تجنبت موسكو حتى الآن المشاركة الفعالة في تقديم الدعم العسكري للنظام السوري بشكل واضح، وحتى الدعم السياسي الذي اعتدنا عليه في مثل هذه الظروف سابقًا.

قد يعكس هذا الموقف المتحفظ تفاهمًا تركيًا روسيًا، سواء كان صريحًا أو ضمنيًا، أو ربما يعبر عن رغبة روسية في التريث والانتظار حتى تتضح الرؤية وتظهر معطيات جديدة على أرض الواقع السوري.

ويبدو الموقف الأميركي مماثلاً إلى حد كبير، إذ لم تصدر واشنطن حتى الآن تصريحات قوية اللهجة تدين هذه التحركات. وسيتضح الموقف الأميركي بصورة جليّة في حال تغاضيها عن تدفق أعداد كبيرة من الفصائل العراقية الموالية لإيران إلى الأراضي السورية، إذ سيعني ذلك أن واشنطن غير راضية عن هذا التمدد لفصائل المعارضة السنية، أو أنها ترغب في إشعال فتيل صراع سني-شيعي جديد يؤدي إلى استنزاف الطرفين وإضعافهما.

على الرغم من أن إنهاء النفوذ الإيراني في سوريا يخدم المصالح الإسرائيلية بشكل عام، إلا أن تراجع نفوذ قوات سوريا الديمقراطية (قسد) من جهة، وتوسع نفوذ القوى السنية التي تعتبرها تل أبيب متطرفة من جهة أخرى، قد يمنعان إسرائيل من تقديم دعم علني للعملية العسكرية الجارية، وإن كانت لا تمانع في ممارسة أقصى درجات الضغط على النظام السوري وحليفه الإيراني.

حتى الآن، تبدو تركيا هي المستفيد الأكبر من التطورات الأخيرة في الشمال السوري. على الرغم من نفيها أي دور مباشر في العملية، إلا أنها تعتبر الطرف الدولي الأكثر تأثيرًا على جميع الفصائل المشاركة. وفي حال تمكنت هذه الفصائل من الحفاظ على المكاسب التي حققتها حتى الآن، فستلعب تركيا دورًا محوريًا في أي تسوية سياسية مقبلة.

في المقابل، تظهر العملية بوضوح أن الخاسر الأكبر حتى الآن هو النظام السوري، الذي عاد خلال أيام معدودة إلى حالة الضعف والانهيار التي شهدها في عام 2012، وانهارت معها جميع رواياته عن "الانتصار" و"الاستقرار"، وجهوده المدعومة من عدة جهات إقليمية للانتقال إلى مرحلة ما بعد الاستقرار، من إعادة تأهيل النظام إلى تنفيذ مشاريع التعافي المبكر وإعادة الإعمار.

كما تعتبر إيران من بين أبرز الخاسرين حتى الآن، بعد أن فقدت نفوذها المتزايد في الشمال السوري، والذي استثمرت فيه موارد مالية وبشرية ضخمة على مدار سنوات طويلة. وهي الآن في وضع حرج سياسيًا وعسكريًا. فإذا استمر الحياد الروسي في هذه المعركة، فإن إرسال مقاتليها إلى الشمال السوري دون توفير غطاء جوي كافٍ سيكون بمثابة مشروع لمحرقة مماثلة لتلك التي تعرضت لها فصائلها في الفترة ما بين عامي 2014 و2015، والتي انتهت بتوجه قائد فيلق القدس آنذاك، قاسم سليماني، لطلب التدخل العسكري الروسي، والذي تم بالفعل قبل أسابيع قليلة من سقوط النظام السوري المحتوم، وفقًا لتصريح لاحق لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف.

تبدو قوات سوريا الديمقراطية (قسد) هي الأخرى من بين الخاسرين حتى الآن، بعد أن فقدت تواجدها في مدينة حلب وفي مدينة تل رفعت المجاورة، وقد تفقد تواجدها في المناطق المتبقية من ريف حلب الشمالي.

وحتى لو تغيرت المعطيات الحالية، فمن الصعب تصور عودة سيطرة قسد على هذه المناطق في أي سيناريو مستقبلي، حيث جاءت هذه السيطرة في ظل ظروف تاريخية لم تعد قائمة اليوم.

بشكل عام، فإن التطورات الحالية في سوريا تعيد خلط الأوراق في المشهد الذي اتسم بالجمود النسبي منذ حوالي ثماني سنوات. وستكون النتائج المترتبة عليها ذات تأثير عميق على الوضع السوري أولًا، وربما على المشهد الإقليمي والدولي برمته ثانيًا.

فجميع الأطراف الدولية تستعد بالفعل للولاية الثانية للرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي سيسعى لعقد صفقة في أوكرانيا، وصفقة أخرى في منطقة الشرق الأوسط، وربما يعيد محاولة تنفيذ رغبته السابقة بسحب قواته من سوريا، بالتوازي مع رغبته في إعادة فرض أقصى العقوبات على إيران، واستكمال المشروع الإسرائيلي الهادف إلى إضعاف الأذرع الإيرانية في المنطقة. ولذا، فإن التغيرات الحالية على الأرض السورية ستشكل معطيات حاسمة في معادلات الصفقات القادمة.

على المستوى المحلي، فإن استعادة المعارضة السورية لمدينة حلب يعيد تشكيل ديناميكيات الصراع، ويمنح المعارضة دورًا تفاوضيًا أقوى، ويفتح الباب أمام تركيا لتعزيز نفوذها ومكانتها كقوة إقليمية ذات تأثير مباشر في مستقبل سوريا السياسي والاقتصادي.

تمهد الأحداث الجارية لمرحلة جديدة في سوريا، ترتكز على إعادة توزيع مناطق النفوذ بين القوى الكبرى، مع إخراج إيران تدريجيًا من المشهد السوري. لا تقتصر هذه التطورات على الجانب العسكري فحسب، بل تشمل أيضًا ترتيبات سياسية واقتصادية واعدة، تشير إلى أن اللاعبين الرئيسيين قد بدأوا بالفعل في رسم الخطوط العريضة للتسوية المقبلة.

ما تشهده سوريا اليوم قد يكون بمثابة إيذان بانتهاء حقبة طويلة من النفوذ الإيراني الواسع، وبداية حقبة جديدة تهيمن عليها مصالح تركيا وروسيا. ودخول إدارة أميركية جديدة إلى البيت الأبيض قد يعجل بمسار الأحداث، حيث تتجه الأنظار نحو مزيد من التصعيد في المواجهة مع إيران، سواء من خلال تشديد العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، أو عن طريق تقليص قنواتها المالية السرية في المنطقة.

في ظل هذا الواقع المتغير، يبدو أن حلب ليست سوى الخطوة الأولى في طريق طويل نحو إعادة تشكيل المشهد السوري برمته، ضمن مسار معقد من المفاوضات والمعارك التي ستحدد مصير البلاد ومستقبل المنطقة بأسرها.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة